فصل: النَّوْعُ الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ: فِي الْعُلُومِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنَ الْقُرْآنِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الإتقان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.تَنْبِيهَاتٌ:

.الْأَوَّلُ:

اخْتُلِفَ فِي قَدْرِ الْمُعْجِزِ مِنَ الْقُرْآنِ، فَذَهَبَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ إِلَى أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِجَمِيعِ الْقُرْآنِ وَالْآيَتَانِ السَّابِقَتَانِ تَرُدُّهُ‏.
وَقَالَ الْقَاضِي‏: يَتَعَلَّقُ الْإِعْجَازُ بِسُورَةٍ طَوِيلَةٍ أَوْ قَصِيرَةٍ تَشَبُّثًا بِظَاهِرِ قَوْلِه: بِسُورَةٍ.
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ‏: يَتَعَلَّقُ بِسُورَةٍ أَوْ قَدْرِهَا مِنَ الْكَلَامِ بِحَيْثُ يَتَبَيَّنُ فِيهِ تُفَاضُلُ قُوَى الْبَلَاغَةِ، قَالَ‏: فَإِذَا كَانَتْ آيَةٌ بِقَدْرِ حُرُوفِ سُورَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ كَسُورَةِ الْكَوْثَرِ فَذَلِكَ مُعْجِزٌ‏.
قَالَ‏: وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى عَجْزِهِمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ فِي أَقَلَّ مِنْ هَذَا الْقَدْرِ‏.
وَقَالَ قَوْمٌ‏: لَا يَحْصُلُ الْإِعْجَازُ بِآيَةٍ، بَلْ يُشْتَرَطُ الْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ‏.
وَقَالَ آخَرُونَ‏: يَتَعَلَّقُ بِقَلِيلِ الْقُرْآنِ وَكَثِيرِهِ لِقَوْلِه: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطُّور: 34]. قَالَ الْقَاضِي‏: وَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ; لِأَنَّ الْحَدِيثَ التَّامَّ لَا تَتَحَصَّلُ حِكَايَتُهُ فِي أَقَلَّ مِنْ كَلِمَاتِ سُورَةٍ قَصِيرَةٍ‏.

.الثَّانِي:

اخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ هَلْ يُعْلَمُ إِعْجَازُ الْقُرْآنِ ضَرُورَةً؟
قَالَ الْقَاضِي: فَذَهَبَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ إِلَى أَنَّ ظُهُورَ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْلَمُ ضَرُورَةً، وَكَوْنُهُ مُعْجِزًا يُعْلَمُ بِالِاسْتِدْلَالِ‏.
قَالَ‏: وَالَّذِي نَقُولُهُ: إِنَّ الْأَعْجَمِيَّ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْلَمَ إِعْجَازَهُ إِلَّا اسْتِدْلَالًا، وَكَذَلِكَ مَنْ لَيْسَ بِبَلِيغٍ، فَأَمَّا الْبَلِيغُ الَّذِي قَدْ أَحَاطَ بِمَذَاهِبِ الْعَرَبِ وَغَرَائِبِ الصَّنْعَةِ، فَإِنَّهُ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ ضَرُورَةَ عَجْزِهِ وَعَجْزِ غَيْرِهِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ‏.

.الثَّالِثُ:

اخْتُلِفَ فِي تَفَاوُتِ الْقُرْآنِ فِي مَرَاتِبِ الْفَصَاحَةِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْبَلَاغَةِ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ فِي التَّرَاكِيبِ مَا هُوَ أَشَدُّ تَنَاسُبًا وَلَا اعْتِدَالًا فِي إِفَادَةِ ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنْهُ.
فَاخْتَارَ الْقَاضِي الْمَنْعَ، وَأَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ فِيهِ مَوْصُوفَةٌ بِالذِّرْوَةِ الْعُلْيَا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ أَحْسَنَ إِحْسَاسًا لَهُ مِنْ بَعْضٍ‏.
وَاخْتَارَ أَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيُّ وَغَيْرُهُ التَّفَاوُتَ فَقَالَ‏: لَا نَدَّعِي أَنَّ كُلَّ مَا فِي الْقُرْآنِ عَلَى أَرْفَعِ الدَّرَجَاتِ فِي الْفَصَاحَةِ، وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ‏: فِي الْقُرْآنِ الْأَفْصَحُ وَالْفَصِيحُ، وَإِلَى هَذَا نَحَا الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، ثُمَّ أَوْرَدَ سُؤَالًا وَهُوَ أَنَّهُ لِمَ لَمْ يَأْتِ الْقُرْآنُ جَمِيعُهُ بِالْأَفْصَحِ، وَأَجَابَ عَنْهُ الصَّدْرُ مَوْهُوبٌ الْجَزَرِيُّ بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّهُ لَوْ جَاءَ الْقُرْآنُ عَلَى ذَلِكَ لَكَانَ عَلَى غَيْرِ النَّمَطِ الْمُعْتَادِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَفْصَحِ وَالْفَصِيحِ، فَلَا تَتِمُّ الْحُجَّةُ فِي الْإِعْجَازِ، فَجَاءَ عَلَى نَمَطِ كَلَامِهِمُ الْمُعْتَادِ، لِيَتِمَّ ظُهُورُ الْعَجْزِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ، وَلَا يَقُولُوا مَثَلًا‏: أَتَيْتَ بِمَا لَا قُدْرَةَ لَنَا عَلَى جِنْسِهِ، كَمَا لَا يَصِحُّ مِنَ الْبَصِيرِ أَنْ يَقُولَ لِلْأَعْمَى: قَدْ غَلَبْتُكَ بِنَظَرِي، لِأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ‏: إِنَّمَا تَتِمُّ لَكَ الْغَلَبَةُ لَوْ كُنْتُ قَادِرًا عَلَى النَّظَرِ، وَكَانَ نَظَرُكَ أَقْوَى مِنْ نَظَرِي، وَأَمَّا إِذَا فُقِدَ أَصْلُ النَّظَرِ فَكَيْفَ يَصِحُّ مِنِّي الْمُعَارَضَةُ‏.

.الرَّابِعُ:

قِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي تَنْزِيهِ الْقُرْآنِ عَنِ الشِّعْرِ الْمَوْزُونِ مَعَ أَنَّ الْمَوْزُونَ مِنَ الْكَلَامِ رُتْبَتُهُ فَوْقَ رُتْبَةِ غَيْرِهِ أَنَّ الْقُرْآنَ مَنْبَعُ الْحَقِّ، وَمَجْمَعُ الصِّدْقِ، وَقُصَارَى أَمْرِ الشَّاعِرِ التَّخْيِيلُ بِتَصَوُّرِ الْبَاطِلِ فِي صُورَةِ الْحَقِّ، وَالْإِفْرَاطُ فِي الْإِطْرَاءِ وَالْمُبَالَغَةُ فِي الذَّمِّ، وَالْإِيذَاءُ دُونَ إِظْهَارِ الْحَقِّ وَإِثْبَاتِ الصِّدْقِ، وَلِهَذَا نَزَّهَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَنْهُ، وَلِأَجْلِ شُهْرَةِ الشِّعْرِ بِالْكَذِبِ سَمَّى أَصْحَابُ الْبُرْهَانِ الْقِيَاسَاتِ الْمُؤَدِّيَةَ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ إِلَى الْبُطْلَانِ وَالْكَذِبِ شِعْرِيَّةً‏.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاء: لَمْ يُرَ مُتَدَيِّنٌ صَادِقُ اللَّهْجَةِ، مُفْلِقًا فِي شِعْرِهِ‏.
وَأَمَّا مَا وُجِدَ فِي الْقُرْآنِ مِمَّا صُورَتُهُ صُورَةُ الْمَوْزُونِ، مِنَ الشِّعْرِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى شِعْرًا، لِأَنَّ شَرْطَ الشِّعْرِ الْقَصْدُ وَلَوْ كَانَ شِعْرًا لَكَانَ كُلُّ مَنِ اتَّفَقَ لَهُ فِي كَلَامِهِ شَيْءٌ مَوْزُونٌ شَاعِرًا، فَكَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ شُعَرَاءَ، لِأَنَّهُ قَلَّ أَنْ يَخْلُوَ كَلَامُ أَحَدٍ عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ عَلَى الْفُصَحَاءِ فَلَوِ اعْتَقَدُوهُ شِعْرًا لَبَادَرُوا إِلَى مُعَارَضَتِهِ وَالطَّعْنِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَقَعُ ذَلِكَ لِبُلُوغِ الْغَايَةِ الْقُصْوَى فِي الِانْسِجَامِ‏.
وَقِيلَ: الْبَيْتُ الْوَاحِدُ وَمَا كَانَ عَلَى وَزْنِهِ لَا يُسَمَّى شِعْرًا، وَأَقَلُّ الشَّعْرِ بَيْتَانِ فَصَاعِدًا‏.
وَقِيلَ: الرَّجَزُ لَا يُسَمَّى شِعْرًا أَصْلًا.
وَقِيلَ: أَقَلُّ مَا يَكُونُ مِنَ الرَّجَزِ شِعْرًا أَرْبَعَةُ أَبْيَاتٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ بِحَالٍ‏.

.الْخَامِسُ:

قَالَ بَعْضُهُمُ: التَّحَدِّي إِنَّمَا وَقَعَ لِلْإِنْسِ دُونَ الْجِنِّ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ الَّذِي جَاءَ الْقُرْآنُ عَلَى أَسَالِيبِهِ وَإِنَّمَا ذَكَرُوا فِي قوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ} [الْإِسْرَاء: 88]. تَعْظِيمًا لِإِعْجَازِهِ، لِأَنَّ لِلْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ مِنَ الْقُوَّةِ مَا لَيْسَ لِلْأَفْرَادِ، فَإِذَا فُرِضَ اجْتِمَاعُ الثَّقَلَيْنِ فِيهِ، وَظَاهَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَعَجَزُوا عَنِ الْمُعَارَضَةِ كَانَ الْفَرِيقُ الْوَاحِدُ أَعْجَزَ‏.
وَقَالَ غَيْرُهُ‏: بَلْ وَقَعَ لِلْجِنِّ أَيْضًا وَالْمَلَائِكَةُ مَنْوِيُّونَ فِي الْآيَةِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَيْضًا عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ‏.
وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ فِي غَرَائِبِ التَّفْسِير: إِنَّمَا اقْتَصَرَ فِي الْآيَةِ عَلَى ذِكْرِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى الثَّقَلَيْنِ دُونَ الْمَلَائِكَةِ‏.

.السَّادِسُ:

سُئِلَ الْغَزَالِيُّ عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النِّسَاء: 82].
‏فَأَجَابَ‏: الِاخْتِلَافُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَعَانٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِ، بَلْ نَفْيُ الِاخْتِلَافِ عَنْ ذَاتِ الْقُرْآنِ‏. وَيُقَالُ: هَذَا كَلَامٌ مُخْتَلِفٌ‏: أَيْ: لَا يُشْبِهُ أَوَّلُهُ آخِرَهُ فِي الْفَصَاحَةِ، أَوْ هُوَ مُخْتَلِفُ الدَّعْوَة: أَيْ: بَعْضُهُ يَدْعُو إِلَى الدِّينِ، وَبَعْضُهُ يَدْعُو إِلَى الدُّنْيَا وَهُوَ مُخْتَلِفُ النَّظْمِ، فَبَعْضُهُ عَلَى وَزْنِ الشِّعْرِ، وَبَعْضُهُ مُنْزَحِفٌ وَبَعْضُهُ عَلَى أُسْلُوبٍ مَخْصُوصٍ فِي الْجَزَالَةِ، وَبَعْضُهُ عَلَى أُسْلُوبٍ يُخَالِفُهُ.
وَكَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّهٌ عَنْ هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتِ، فَإِنَّهُ عَلَى مِنْهَاجٍ وَاحِدٍ فِي النَّظْمِ مُنَاسِبٌ أَوَّلُهُ آخِرَهُ وَعَلَى دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ فَلَيْسَ يَشْتَمِلُ عَلَى الْغَثِّ وَالسَّمِينِ، وَمَسُوقٌ لِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ دَعْوَةُ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَصَرْفِهِمْ عَنِ الدُّنْيَا إِلَى الدِّينِ.
وَكَلَامُ الْآدَمِيِّينَ تَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتُ، إِذْ كَلَامُ الشُّعَرَاءِ وَالْمُتَرَسِّلِينَ إِذَا قِيسَ عَلَيْهِ، وُجِدَ فِيهِ اخْتِلَافٌ فِي مِنْهَاجِ النَّظْمِ، ثُمَّ اخْتِلَافٌ فِي دَرَجَاتِ الْفَصَاحَةِ، بَلْ فِي أَصْلِ الْفَصَاحَةِ حَتَّى يَشْتَمِلَ عَلَى الْغَثِّ وَالسَّمِينِ، فَلَا تَتَسَاوَى رِسَالَتَانِ وَلَا قَصِيدَتَانِ، بَلْ تَشْتَمِلُ قَصِيدَةٌ عَلَى أَبْيَاتٍ فَصَيْحَةٍ وَأَبْيَاتٍ سَخِيفَةٍ، وَكَذَلِكَ تَشْتَمِلُ الْقَصَائِدُ وَالْأَشْعَارُ عَلَى أَغْرَاضٍ مُخْتَلِفَةٍ، لِأَنَّ الشُّعَرَاءَ وَالْفُصَحَاءَ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، فَتَارَةً يَمْدَحُونَ الدُّنْيَا وَتَارَةً يَذُمُّونَهَا، وَتَارَةً يَمْدَحُونَ الْجُبْنَ وَيُسَمُّونَهُ حَزْمًا، وَتَارَةً يَذُمُّونَهُ وَيُسَمُّونَهُ ضَعْفًا، وَتَارَةً يَمْدَحُونَ الشَّجَاعَةَ وَيُسَمُّونَهَا صَرَامَةً، وَتَارَةً يَذُمُّونَهَا وَيُسَمُّونَهَا تَهَوُّرًا، وَلَا يَنْفَكُّ كَلَامٌ آدَمِيٌّ عَنْ هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتِ; لِأَنَّ مَنْشَأَهَا اخْتِلَافُ الْأَغْرَاضِ بِالْأَحْوَالِ، وَالْإِنْسَانُ تَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُ فَتُسَاعِدُهُ الْفَصَاحَةُ عِنْدَ انْبِسَاطِ الطَّبْعِ وَفَرَحِهِ، وَتَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ عِنْدَ الِانْقِبَاضِ، وَكَذَلِكَ تَخْتَلِفُ أَغْرَاضُهُ فَيَمِيلُ إِلَى الشَّيْءِ مَرَّةً، وَيَمِيلُ عَنْهُ أُخْرَى، فَيُوجِبُ ذَلِكَ اخْتِلَافًا فِي كَلَامِهِ بِالضَّرُورَةِ، فَلَا يُصَادِفُ إِنْسَانٌ يَتَكَلَّمُ فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَهِيَ مُدَّةُ نُزُولِ الْقُرْآنِ فَيَتَكَلَّمُ عَلَى غَرَضٍ وَاحِدٍ، وَمِنْهَاجٍ وَاحِدٍ، وَلَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَرًا تَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُ، فَلَوْ كَانَ هَذَا كَلَامَهُ أَوْ كَلَامَ غَيْرِهِ مِنَ الْبَشَرِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا‏.

.السَّابِعُ:

قَالَ الْقَاضِي‏: فَإِنْ قِيلَ هَلْ تَقُولُونَ إِنَّ غَيْرَ الْقُرْآنِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ مُعْجِزًا كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ؟ قُلْنَا‏: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِمُعْجِزٍ فِي النَّظْمِ وَالتَّأْلِيفِ، وَإِنْ كَانَ مُعْجِزًا كَالْقُرْآنِ فِيمَا يَتَضَمَّنُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْغُيُوبِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْجِزًا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَصِفْهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ الْقُرْآنَ، وَلِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَقَعِ التَّحَدِّي إِلَيْهِ كَمَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ اللِّسَانَ لَا يَتَأَتَّى فِيهِ مِنْ وُجُوهِ الْفَصَاحَةِ مَا يَقَعُ بِهِ التَّفَاضُلُ الَّذِي يَنْتَهِي إِلَى حَدِّ الْإِعْجَازِ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جِنِّيٍّ فِي الْخَاطِرِيَّاتِ فِي قوله: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} [طه: 65]. أَنَّ الْعُدُولَ عَنْ قَوْلِهِ وَإِمَّا أَنْ نُلْقِي لِغَرَضَيْن: أَحَدُهُمَا لَفْظِيٌّ وَهُوَ الْمُزَاوَجَةُ لِرُءُوسِ الْآيِ‏، وَالْآخَرُ مَعْنَوِيٌّ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ قُوَّةِ أَنْفُسِ السَّحَرَةِ وَاسْتِطَالَتِهِمْ عَلَى مُوسَى، فَجَاءَ عَنْهُمْ بِاللَّفْظِ أَتَمَّ وَأَوْفَى مِنْهُ فِي إِسْنَادِهِمُ الْفِعْلَ إِلَيْهِ‏.
ثُمَّ أَوْرَدَ سُؤَالًا وَهُوَ: أَنَّا لَا نَعْلَمُ أَنَّ السَّحَرَةَ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ لِسَانٍ، فَنَذْهَبُ بِهِمْ هَذَا الْمَذْهَبَ مِنْ صَنْعَةِ الْكَلَامِ؟ وَأَجَابَ بِأَنَّ جَمِيعَ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ حِكَايَةً عَنْ غَيْرِ أَهْلِ اللِّسَانِ مِنَ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ إِنَّمَا هُوَ مُعْرِبٌ عَنْ مَعَانِيهِمْ، وَلَيْسَ بِحَقِيقَةِ أَلْفَاظِهِمْ وَلِهَذَا لَا يُشَكُّ فِي أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه: 63]. أَنَّ هَذِهِ الْفَصَاحَةَ لَمْ تَجْرِ عَلَى لُغَةِ الْعَجَمِ‏.

.الثَّامِنُ:

قَالَ الْبَارِزِيُّ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ أَنْوَارُ التَّحْصِيلِ فِي أَسْرَارِ التَّنْزِيل: اعْلَمْ أَنَّ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ قَدْ يُخْبَرُ عَنْهُ بِأَلْفَاظٍ بَعْضُهَا أَحْسَنُ مِنْ بَعْضٍ، وَكَذَلِكَ كَلُّ وَاحِدٍ مِنْ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ قَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِأَفْصَحِ مَا يُلَائِمُ الْجُزْءَ الْآخَرَ، وَلَا بُدَّ مِنِ اسْتِحْضَارِ مَعَانِي الْجُمَلِ أَوِ اسْتِحْضَارِ جَمِيعِ مَا يُلَائِمُهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ، ثُمَّ اسْتِعْمَالِ أَنْسَبِهَا وَأَفْصَحِهَا وَاسْتِحْضَارُ هَذَا مُتَعَذِّرٌ عَلَى الْبَشَرِ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ، وَذَلِكَ عَتِيدٌ حَاصِلٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلِذَلِكَ كَانَ الْقُرْآنُ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ وَأَفْصَحَهُ مَا السِّرُّ فِي ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى الْفَصِيحِ وَالْأَفْصَحِ، وَالْمَلِيحِ وَالْأَمْلَحِ، وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ:
مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرَّحْمَن: 54]. لَوْ قَالَ مَكَانَهُ: (وَثَمَرُ الْجَنَّتَيْنِ قَرِيبٌ) لَمْ يَقُمْ مَقَامَهُ مِنْ جِهَةِ الْجِنَاسِ بَيْنَ الْجَنَى وَالْجَنَّتَيْنِ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الثَّمَرَ لَا يُشْعِرُ بِمَصِيرِهِ إِلَى حَالٍ يُجْنَى فِيهَا، وَمِنْ جِهَةِ مُؤَاخَاةِ الْفَوَاصِلِ‏.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} [الْعَنْكَبُوت: 48]. أَحْسَنُ مِنَ التَّعْبِيرِ بـ: (تَقْرَأُ) لِثِقْلِهِ بِالْهَمْزَةِ‏.
وَمِنْهَا {لَا رَيْبَ فِيهِ} [الْبَقَرَة: 2]. أَحْسَنُ مِنْ (لَا شَكَّ فِيهِ)، لِثِقَلِ الْإِدْغَامِ، وَلِهَذَا كَثُرَ ذِكْرُ الرَّيْبِ‏. وَمِنْهَا {وَلَا تَهِنُوا} [آلِ عِمْرَانَ: 139]. أَحْسَنُ مِنْ (وَلَا تَضْعُفُوا) لِخِفَّتِهِ، وَ{وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مَرْيَمَ: 4]. أَحْسَنُ مِنْ ضَعُفَ لِأَنَّ الْفَتْحَةَ أَخَفُّ مِنَ الضَّمَّةِ‏.
وَمِنْهَا (آمَنَ) [الْبَقَرَة: 62]. أَخَفُّ مِنْ صَدَّقَ، وَلِذَا كَانَ ذِكْرُهُ أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ التَّصْدِيقِ، وَ{آثَرَكَ اللَّهُ} [يُوسُفَ: 91]. أَخَفُّ مِنْ فَضَّلَكَ، وَ{آتَى} [الْبَقَرَة: 177]. أَخَفُّ مِنْ أَعْطَى، وَ(أَنْذَرَ) [الْأَحْقَاف: 21]. أَخَفُّ مِنْ خَوَّفَ، وَ{خَيْرٌ لَكُمْ} [الْبَقَرَة: 184]. أَخَفُّ مِنْ (أَفْضَلُ لَكُمْ)، وَالْمَصْدَرُ فِي نَحْو: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لُقْمَانَ: 11]. {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [الْبَقَرَة: 3]. أَخَفُّ مِنْ مَخْلُوقِ وَالْغَائِبِ، وَ{تَنْكِحُ} [الْبَقَرَة: 230]. أَخَفُّ مِنْ تَتَزَوَّجُ؛ لِأَنَّ (تَفْعِلُ) أَخَفُّ مِنْ (تَتَفَعَّلَ)، وَلِهَذَا كَانَ ذِكْرُ النِّكَاحِ فِيهِ أَكْثَرَ.
وَلِأَجْلِ التَّخْفِيفِ وَالِاخْتِصَارِ اسْتُعْمِلَ لَفْظُ الرَّحْمَةِ وَالْغَضَبِ وَالرِّضَا وَالْحُبِّ وَالْمَقْتِ فِي أَوْصَافِ اللَّهِ تَعَالَى، مَعَ أَنَّهُ لَا يُوصَفُ بِهَا حَقِيقَةً، لِأَنَّهُ لَوْ عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِأَلْفَاظِ الْحَقِيقَةِ لَطَالَ الْكَلَامُ، كَأَنْ يُقَالُ: يُعَامِلُهُ مُعَامَلَةَ الْمُحِبِّ وَالْمَاقِتِ، فَالْمَجَازُ فِي مِثْلِ هَذَا أَفْضَلُ مِنَ الْحَقِيقَةِ لِخِفَّتِهِ وَاخْتِصَارِهِ وَابْتِنَائِهِ عَلَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، فَإِنَّ قوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزُّخْرُف: 55]. أَحْسَنُ مِنْ فَلَمَّا عَامَلُونَا مُعَامَلَةَ الْغَضَبِ، أَوْ فَلَمَّا أَتَوْا إِلَيْنَا بِمَا يَأْتِيهِ الْمُغْضَبُ انْتَهَى.

.التَّاسِعُ:

قَالَ الرُّمَّانِيُّ‏: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏: فَلَعَلَّ السُّوَرَ الْقِصَارَ يُمْكِنُ فِيهَا الْمُعَارَضَةُ؟ الرَّدُّ عَلَى ذَلِكَ.
قِيلَ: لَا يَجُوزُ فِيهَا ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَنَّ التَّحَدِّيَ قَدْ وَقَعَ بِهَا، فَظَهَرَ الْعَجْزُ عَنْهَا فِي قَوْلِه: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ} [يُونُسَ: 38]. فَلَمْ يَخُصَّ بِذَلِكَ الطِّوَالَ دُونَ الْقِصَارِ. فَإِنْ قَالَ: فَإِنَّهُ يُمْكِنُ فِي الْقِصَارِ أَنْ تُغَيَّرَ الْفَوَاصِلُ، فَيُجْعَلُ بَدَلَ كُلِّ كَلِمَةٍ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا، فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ مُعَارَضَةً؟
قِيلَ لَهُ: لَا، مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْمُفْحَمَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُنْشِئَ بَيْتًا وَاحِدًا وَلَا يَفْصِلَ بِطَبْعِهِ بَيْنَ مَكْسُورٍ وَمَوْزُونٍ فَلَوْ أَنَّ مُفْحَمًا رَامَ أَنْ يَجْعَلَ بَدَلَ قَوَافِي قَصِيدَةِ رُؤْبَةَ:
وَقَاتِمِ الْأَعْمَاقِ خَاوِي الْمُخْتَرَقْ ** مُشْتَبِهِ الْأَعْلَامِ لَمَّاعِ الْخَفَقْ

بِكُلِّ وَفْدِ الرِّيحِ مِنْ حَيْثُ انْخَرَقْ

فَجَعَلَ بَدَلَ الْمُخْتَرَقْ: الْمُمَزَّقْ، وَبَدَلَ الْخَفَقْ: الشَّفَقْ، وَبَدَلَ انْخَرَقْ: انْطَلَقْ، لَأَمْكَنَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ بِهِ قَوْلُ الشِّعْرِ، وَلَا مُعَارَضَةُ رُؤْبَةَ فِي هَذِهِ الْقَصِيدَةِ عِنْدَ أَحَدٍ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ، فَكَذَلِكَ سَبِيلُ مَنْ غَيَّرَ الْفَوَاصِلَ.

.النَّوْعُ الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ: فِي الْعُلُومِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنَ الْقُرْآنِ:

قَالَ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الْأَنْعَام: 38].
وَقَالَ: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النَّحْل: 89]. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَتَكُونُ فِتَنٌ قِيلَ‏: وَمَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا؟ قَالَ‏: كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ‏.
وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ‏: مَنْ أَرَادَ الْعِلْمَ فَعَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ، فَإِنَّ فِيهِ خَبَرَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ‏.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ‏: يَعْنِي أُصُولَ الْعِلْمِ‏. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ‏: أَنْزَلَ اللَّهُ مِائَةً وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ، أَوْدَعَ عُلُومَهَا أَرْبَعَةً مِنْهَا: التَّوْرَاةَ، وَالْإِنْجِيلَ، وَالزَّبُورَ، وَالْفُرْقَانَ، ثُمَّ أَوْدَعَ عُلُومَ الثَّلَاثَةِ الْفُرْقَانَ‏.
وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏: جَمِيعُ مَا تَقُولُهُ الْأُمَّةُ شَرْحٌ لِلسُّنَّةِ وَجَمِيعُ السُّنَّةِ شَرْحٌ لِلْقُرْآنِ‏.
وَقَالَ أَيْضًا‏: جَمِيعُ مَا حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مِمَّا فَهِمَهُ مِنَ الْقَرْآنِ‏.
قُلْتُ‏: وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَا أُحِلُّ إِلَّا مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَلَا أُحَرِّمُ إِلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ» أَخْرَجَهُ بِهَذَا اللَّفْظِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ‏.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ‏: مَا بَلَغَنِي حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِهِ إِلَّا وَجَدْتُ مِصْدَاقَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ‏. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ‏: إِذَا حَدَّثْتُكُمْ بِحَدِيثٍ أَنْبَأَتْكُمْ بِتَصْدِيقِهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. أَخْرَجَهُمَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ‏.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا‏: لَيْسَتْ تَنْزِلُ بِأَحَدٍ فِي الدِّينِ نَازِلَةٌ إِلَّا فِي كِتَابِ اللَّهِ الدَّلِيلُ عَلَى سَبِيلِ الْهُدَى فِيهَا‏.
فَإِنْ قِيلَ‏: مِنَ الْأَحْكَامِ مَا يَثْبُتُ ابْتِدَاءً بِالسُّنَّةِ‏. قُلْنَا‏: ذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ أَوْجَبَ عَلَيْنَا اتِّبَاعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَرَضَ عَلَيْنَا الْأَخْذَ بِقَوْلِهِ‏.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ مَرَّةً بِمَكَّةَ‏: سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ أُخْبِرْكُمْ عَنْهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَقِيلَ لَهُ‏: مَا تَقُولُ فِي الْمُحْرِمِ يَقْتُلُ الزُّنْبُورَ؟ فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الْحَشْر: 7].
وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ‏: «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ».
وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ الْمُحْرِمِ الزَّنْبُورَ‏.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ «عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ‏: لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُتَوَشِّمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ، الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ تَعَالَى. فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ فَقَالَتْ لَهُ‏: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ لَعَنْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ! فَقَالَ‏: وَمَالِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَتْ‏: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ فَمَا وَجَدْتُ فِيهِ كَمَا تَقُولُ؟ قَالَ‏: لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيْهِ، أَمَا قَرَأْت: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الْحَشْر: 7]. قَالَتْ‏: بَلَى قَالَ‏: فَإِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ‏».
وَحَكَى ابْنُ سُرَاقَةَ فِي كِتَابِ الْإِعْجَازِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا‏: مَا مِنْ شَيْءٍ فِي الْعَالَمِ إِلَّا وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَقِيلَ لَهُ‏: فَأَيْنَ ذِكْرُ الْخَانَاتِ فِيهِ فَقَالَ‏: فِي قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النُّور: 29]. فَهِيَ الْخَانَاتِ‏.
وَقَالَ ابْنُ بُرْجَانَ‏: مَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ فِيهِ أَصْلُهُ، قَرُبَ أَوْ بَعُدَ، فَهِمَهُ مَنْ فَهِمَهُ، وَعَمِهَ عَنْهُ مَنْ عَمِهَ، وَكَذَا كُلُّ مَا حَكَمَ بِهِ أَوْ قَضَى بِهِ وَإِنَّمَا يُدْرِكُ الطَّالِبُ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ اجْتِهَادِهِ وَبَذْلِ وُسْعِهِ وَمِقْدَارِ فَهْمِهِ‏.
وَقَالَ غَيْرُهُ‏: مَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُهُ مِنَ الْقُرْآنِ لِمَنْ فَهَّمَهُ اللَّهُ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمُ اسْتَنْبَطَ عُمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً مِنْ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [الْمُنَافِقُونَ: 11]. فَإِنَّهَا رَأْسُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سُورَةً، وَعَقَّبَهَا بِالتَّغَابُنِ لِيَظْهَرَ التَّغَابُنُ فِي فَقْدِهِ‏.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الْفَضْلِ الْمُرْسِيُّ فِي تَفْسِيرِه: جَمَعَ الْقُرْآنُ عُلُومَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ بِحَيْثُ لَمْ يُحِطْ بِهَا عِلْمًا حَقِيقَةً إِلَّا الْمُتَكَلِّمُ بِهَا، ثُمَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلَا مَا اسْتَأْثَرَ بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثُمَّ وَرِثَ عَنْهُ مُعْظَمَ ذَلِكَ سَادَاتُ الصَّحَابَةِ وَأَعْلَامُهُمْ، مِثْلُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ حَتَّى قَالَ‏: لَوْ ضَاعَ لِي عِقَالُ بَعِيرٍ لَوَجَدْتُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ وَرِثَ عَنْهُمُ التَّابِعُونَ بِإِحْسَانٍ، ثُمَّ تَقَاصَرَتِ الْهِمَمُ، وَفَتَرَتِ الْعَزَائِمُ، وَتَضَاءَلَ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَضَعُفُوا عَنْ حَمْلِ مَا حَمَلَهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ مِنْ عُلُومِهِ وَسَائِرِ فُنُونِهِ، فَنَوَّعُوا عُلُومَهُ، وَقَامَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ بِفَنٍّ مِنْ فُنُونِهِ فَاعْتَنَى قَوْمٌ بِضَبْطِ لُغَاتِهِ، وَتَحْرِيرِ كَلِمَاتِهِ، وَمَعْرِفَةِ مَخَارِجِ حُرُوفِهِ وَعَدَدِهَا وَعَدَدِ كَلِمَاتِهِ وَآيَاتِهِ، وَسُوَرِهِ وَأَحْزَابِهِ، وَأَنْصَافِهِ وَأَرْبَاعِهِ، وَعَدَدِ سَجَدَاتِهِ وَالتَّعْلِيمِ عِنْدَ كُلِّ عَشْرِ آيَاتٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حَصْرِ الْكَلِمَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ، وَالْآيَاتِ الْمُتَمَاثِلَةِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِمَعَانِيهِ، وَلَا تَدَبُّرٍ لِمَا أُودِعُ فِيهِ، فَسُمُّوا الْقُرَّاءَ.
وَاعْتَنَى النُّحَاةُ بِالْمُعْرَبِ مِنْهُ وَالْمَبْنِيِّ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ وَالْحُرُوفِ الْعَامِلَةِ وَغَيْرِهَا، وَأَوْسَعُوا الْكَلَامَ فِي الْأَسْمَاءِ وَتَوَابِعِهَا وَضُرُوبِ الْأَفْعَالِ، وَاللَّازِمِ وَالْمُتَعَدِّي وَرُسُومِ خَطَّ الْكَلِمَاتِ، وَجَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ أَعْرَبَ مُشْكِلَهُ، وَبَعْضُهُمْ أَعْرَبَهُ كَلِمَةً كَلِمَةً، وَاعْتَنَى الْمُفَسِّرُونَ بِأَلْفَاظِهِ فَوَجَدُوا مِنْهُ لَفْظًا يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَلَفْظًا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ، وَلَفْظًا يَدُلُّ عَلَى أَكْثَرِ، فَأَجْرَوُا الْأَوَّلَ عَلَى حُكْمِهِ، وَأَوْضَحُوا مَعْنَى الْخَفِيِّ مِنْهُ، وَخَاضُوا فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ مُحْتَمَلَاتِ ذِي الْمَعْنَيَيْنِ وَالْمَعَانِي، وَأَعْمَلَ كُلٌّ مِنْهُمْ فِكْرَهُ، وَقَالَ بِمَا اقْتَضَاهُ نَظَرُهُ.
وَاعْتَنَى الْأُصُولِيُّونَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالشَّوَاهِدِ الْأَصْلِيَّةِ وَالنَّظَرِيَّةِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الْأَنْبِيَاء: 22]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ فَاسْتَنْبَطُوا مِنْهُ أَدِلَّةً عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَوُجُودِهِ وَبَقَائِهِ وَقِدَمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَسَمَّوْا هَذَا الْعِلْمَ بِأُصُولِ الدِّينِ‏.
وَتَأَمَّلَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَانِيَ خِطَابِهِ فَرَأَتْ مِنْهَا مَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ وَمِنْهَا مَا يَقْتَضِي الْخُصُوصَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَاسْتَنْبَطُوا مِنْهُ أَحْكَامَ اللُّغَةِ مِنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَتَكَلَّمُوا فِي التَّخْصِيصِ، وَالْإِخْبَارِ، وَالنَّصِّ، وَالظَّاهِرِ، وَالْمُجْمَلِ، وَالْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالنَّسْخِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَقْيِسَةِ وَاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَالِاسْتِقْرَاءِ وَسَمَّوْا هَذَا الْفَنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ‏.
وَأَحْكَمَتْ طَائِفَةٌ صَحِيحَ النَّظَرِ وَصَادِقَ النَّظَرِ فِيمَا فِيهِ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ، فَأَسَّسُوا أُصُولَهُ، وَفَرَّعُوا فُرُوعَهُ وَبَسَطُوا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ بَسْطًا حَسَنًا، وَسَمَّوْهُ بِعَلَمِ الْفُرُوعِ وَبِالْفِقْهِ أَيْضًا‏.
وَتَلَمَّحَتْ طَائِفَةٌ مَا فِيهِ مِنْ قَصَصِ الْقُرُونِ السَّالِفَةِ وَالْأُمَمِ الْخَالِيَةِ وَنَقَلُوا أَخْبَارَهُمْ، وَدَوَّنُوا آثَارَهُمْ وَوَقَائِعَهُمْ حَتَّى ذَكَرُوا بَدْءَ الدُّنْيَا وَأَوَّلَ الْأَشْيَاءِ وَسَمَّوْا ذَلِكَ بِالتَّارِيخِ وَالْقَصَصِ‏.
وَتَنَبَّهَ آخَرُونَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْحِكَمِ وَالْأَمْثَالِ وَالْمَوَاعِظِ الَّتِي تُقَلْقِلُ قُلُوبَ الرِّجَالِ وَتَكَادُ تُدَكْدِكُ الْجِبَالَ فَاسْتَنْبَطُوا مِمَّا فِيهِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالتَّحْذِيرِ وَالتَّبْشِيرِ، وَذِكْرِ الْمَوْتِ وَالْمَعَادِ، وَالنَّشْرِ وَالْحَشْرِ، وَالْحِسَابِ وَالْعِقَابِ، وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ فُصُولًا مِنَ الْمَوَاعِظِ، وَأُصُولًا مِنَ الزَّوَاجِرِ فَسُمُّوا بِذَلِكَ الْخُطَبَاءَ وَالْوُعَّاظَ‏.
وَاسْتَنْبَطَ قَوْمٌ مِمَّا فِيهِ مِنْ أُصُولِ التَّعْبِيرِ مِثْلَ مَا وَرَدَ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ فِي الْبَقَرَاتِ السِّمَانِ، وَفِي مَنَامَيْ صَاحِبَيِ السِّجْنِ، وَفِي رُؤْيَاهُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ سَاجِدَةً، وَسَمَّوْهُ تَعْبِيرَ الرُّؤْيَا وَاسْتَنْبَطُوا تَفْسِيرَ كُلِّ رُؤْيَا مِنَ الْكِتَابِ، فَإِنْ عَزَّ عَلَيْهِمْ إِخْرَاجُهَا مِنْهُ فَمِنَ السُّنَّةِ الَّتِي هِيَ شَارِحَةٌ لِلْكِتَابِ، فَإِنْ عَسِرَ فَمِنَ الْحِكَمِ وَالْأَمْثَالِ‏.
ثُمَّ نَظَرُوا إِلَى اصْطِلَاحِ الْعَوَامِ فِي مُخَاطِبَاتِهِمْ وَعُرْفِ عَادَتِهِمُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ بِقوله: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الْأَعْرَاف: 199].
وَأَخَذَ قَوْمٌ مِمَّا فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ مِنْ ذِكْرِ السِّهَامِ وَأَرْبَابِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ عِلْمَ الْفَرَائِضِ وَاسْتَنْبَطُوا مِنْهَا مِنْ ذِكْرِ النِّصْفِ وَالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَالسُّدُسِ وَالثُّمُنِ حِسَابَ الْفَرَائِضِ وَمَسَائِلَ الْعَوْلِ وَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُ أَحْكَامَ الْوَصَايَا‏.
وَنَظَرَ قَوْمٌ إِلَى مَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّاتِ عَلَى الْحِكَمِ الْبَاهِرَةِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَمَنَازِلِهِ، وَالنُّجُومِ وَالْبُرُوجِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُ عِلْمَ الْمَوَاقِيتِ‏.
وَنَظَرَ الْكُتَّابُ وَالشُّعَرَاءُ إِلَى مَا فِيهِ مِنْ جَزَالَةِ اللَّفْظِ، وَبَدِيعِ النَّظْمِ، وَحُسْنِ السِّيَاقِ، وَالْمَبَادِئِ وَالْمَقَاطِعِ وَالْمَخَالَصِ، وَالتَّلْوِينِ فِي الْخِطَابِ، وَالْإِطْنَابِ وَالْإِيجَازِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَاسْتَنْبَطُوا مِنْهُ الْمَعَانِيَ وَالْبَيَانَ وَالْبَدِيعَ.
وَنَظَرَ فِيهِ أَرْبَابُ الْإِشَارَاتِ وَأَصْحَابُ الْحَقِيقَةِ فَلَاحَ لَهُمْ مِنْ أَلْفَاظِهِ مَعَانٍ وَدَقَائِقُ جَعَلُوا لَهَا أَعْلَامًا اصْطَلَحُوا عَلَيْهَا، مِثْلَ: الْفَنَاءِ، وَالْبَقَاءِ، وَالْحُضُورِ، وَالْخَوْفِ، وَالْهَيْبَةِ، وَالْأُنْسِ، وَالْوَحْشَةِ، وَالْقَبْضِ، وَالْبَسْطِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، هَذِهِ الْفُنُونُ الَّتِي أَخَذَتْهَا الْمِلَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ مِنْهُ‏.
وَقَدِ احْتَوَى عَلَى عُلُومٍ أُخْرَى مِنْ عُلُومِ الْأَوَائِلِ مِثْلَ: الطِّبِّ، وَالْجَدَلِ، وَالْهَيْئَةِ، وَالْهَنْدَسَةِ، وَالْجَبْرِ وَالْمُقَابَلَةِ، وَالنِّجَامَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ‏.
أَمَّا الطِّبُّ فَمَدَارُهُ عَلَى حِفْظِ نِظَامِ الصِّحَّةِ وَاسْتِحْكَامِ الْقُوَّةِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِاعْتِدَالِ الْمِزَاجِ بِتَفَاعُلِ الْكَيْفِيَّاتِ الْمُتَضَادَّةِ، وَقَدْ جَمَعَ ذَلِكَ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الْفُرْقَان: 67]. وَعَرَفْنَا فِيهِ بِمَا يُفِيدُ نِظَامَ الصِّحَّةِ بَعْدَ اخْتِلَالِهِ وَحُدُوثِ الشِّفَاءِ لِلْبَدَنِ بَعْدَ اعْتِلَالِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النَّحْل: 69]. ثُمَّ زَادَ عَلَى طِبِّ الْأَجْسَامِ بِطِبِّ الْقُلُوبِ وَشِفَاءِ الصُّدُورِ‏.
وَأَمَّا الْهَيْئَةُ فَفِي تَضَاعِيفِ سُوَرِهِ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بُثَّ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ‏.
وَأَمَّا الْهَنْدَسَةُ فَفِي قَوْلِه: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ} الْآيَةَ [الْمُرْسَلَات: 4]‏.
وَأَمَّا الْجَدَلُ فَقَدْ حَوَتْ آيَاتُهُ مِنَ الْبَرَاهِينِ وَالْمُقَدِّمَاتِ وَالنَّتَائِجِ وَالْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ وَالْمُعَارَضَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ شَيْئًا كَثِيرًا، وَمُنَاظَرَةُ إِبْرَاهِيمَ نَمْرُوذَ وَمُحَاجَّتُهُ قَوْمَهُ أَصْلٌ فِي ذَلِكَ عَظِيمٌ‏.
وَأَمَّا الْجَبْرُ وَالْمُقَابَلَةُ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَوَائِلَ السُّوَرِ فِيهَا ذِكْرُ مُدَدٍ وَأَعْوَامٍ وَأَيَّامٍ لِتَوَارِيخِ أُمَمٍ سَالِفَةٍ، وَإِنَّ فِيهَا تَارِيخَ بَقَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَتَارِيخَ مُدَّةِ أَيَّامِ الدُّنْيَا، وَمَا مَضَى وَمَا بَقِيَ مَضْرُوبٌ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ‏.
وَأَمَّا النِّجَامَةُ فَفِي قوله: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} [الْأَحْقَاف: 4]. فَقَدْ فَسَّرَهُ بِذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَفِيهِ أُصُولُ الصَّنَائِعِ وَأَسْمَاءُ الْآلَاتِ الَّتِي تَدْعُو الضَّرُورَةُ إِلَيْهَا.
كَالْخَيَّاطَةِ فِي قَوْلِه: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ} [الْأَعْرَاف: 22].
وَالْحِدَادَةِ {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} [الْكَهْف: 96]. الْآيَةَ {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سَبَأٍ: 10]. ‏
وَالْبِنَاءِ فِي آيَاتٍ.
وَالنِّجَارَةِ {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هُودٍ: 37].
وَالْغَزْلِ {نقَضَتْ غَزْلَهَا} [النَّحْل: 92].
وَالنَّسْج: {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} [الْعَنْكَبُوت: 41].
وَالْفِلَاحَةِ {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} الْآيَاتِ [الْوَاقِعَة: 63].
وَالصَّيْدِ فِي آيَاتٍ‏.
وَالْغَوْص: {كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} [ص: 37]. {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً} [النَّحْل: 14].
وَالصِّيَاغَةِ {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا} [الْأَعْرَاف: 148].
وَالزِّجَاجَة: {صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} [النَّمْل: 44]. {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} [النُّور: 35]. وَالْفِخَارَة: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} [الْقَصَص: 38].
وَالْمِلَاحَة: {أَمَّا السَّفِينَةُ} الْآيَةَ [الْكَهْف: 79]‏.
وَالْكِتَابَة: {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [الْعَلَق: 4].
وَالْخَبْز: {أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا} [يُوسُفَ: 36].
وَالطَّبْخ: {بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هُودٍ: 69].
وَالْغَسْلِ وَالْقِصَارَة: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [الْمُدَّثِّر: 4]. {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 52]: وَهُمْ الْقَصَّارُونَ‏.
وَالْجِزَارَةِ {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [الْمَائِدَة: 3]. وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي آيَاتٍ‏.
‏وَالصَّبْغ: {صِبْغَةَ اللَّهِ} [الْبَقَرَة: 138]، {جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ} [فَاطِرٍ: 27].
وَالْحِجَارَة: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} [الشُّعَرَاء: 149].
وَالْكِيَالَةِ وَالْوَزْنِ فِي آيَاتٍ.
وَالرَّمْي: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الْأَنْفَال: 17]. {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الْأَنْفَال: 60].
وَفِيهِ مِنْ أَسْمَاءِ الْآلَاتِ، وَضُرُوبِ الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ وَالْمَنْكُوحَاتِ وَجَمِيعِ مَا وَقَعَ وَيَقَعُ فِي الْكَائِنَاتِ مَا يُحَقِّقُ مَعْنَى قوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الْأَنْعَام: 38]. انْتَهَى كَلَامُ الْمُرْسِيِّ مُلَخَّصًا‏.
وَقَالَ ابْنُ سُرَاقَةَ‏: مِنْ بَعْضِ وُجُوهِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ أَعْدَادِ الْحِسَابِ وَالْجَمْعِ وَالْقِسْمَةِ وَالضَّرْبِ، وَالْمُوَافَقَةِ وَالتَّأْلِيفِ وَالْمُنَاسَبَةِ وَالتَّنْصِيفِ وَالْمُضَاعَفَةِ، لِيَعْلَمَ بِذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحِسَابِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَادِقٌ فِي قَوْلِهِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ مِنْ عِنْدِهِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ خَالَطَ الْفَلَاسِفَةَ وَلَا تَلَقَّى الْحُسَّابَ وَأَهْلَ الْهَنْدَسَةِ‏.
وَقَالَ الرَّاغِبُ‏: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا جَعَلَ نُبُوَّةَ النَّبِيِّينَ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخْتَتَمَةً، وَشَرَائِعَهُمْ بِشَرِيعَتِهِ مِنْ وَجْهٍ مُنْتَسَخَةً وَمِنْ وَجْهٍ مُكَمِّلَةً مُتَمِّمَةً، جَعَلَ كِتَابَهُ الْمُنَزَّلَ عَلَيْهِ مُتَضَمِّنًا لِثَمَرَةِ كُتُبِهِ الَّتِي أَوْلَاهَا أُولَئِكَ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ بِقوله: {يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [الْبَيِّنَة: 2، 3]. وَجَعَلَ مِنْ مُعْجِزَةِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّهُ مَعَ قِلَّةِ الْحَجْمِ مُتَضَمِّنٌ لِلْمَعْنَى الْجَمِّ، بِحَيْثُ تَقْصُرُ الْأَلْبَابُ الْبَشَرِيَّةُ عَنْ إِحْصَائِهِ، وَالْآلَاتُ الدُّنْيَوِيَّةُ عَنِ اسْتِيفَائِهِ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ بِقَوْلِه: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لُقْمَانَ: 27]. فَهُوَ وَإِنْ كَانَ لَا يَخْلُو لِلنَّاظِرِ فِيهِ مِنْ نُورِ مَا يُرِيهِ، وَنَفْعِ مَا يُولِيه:
كَالْبَدْرِ مِنْ حَيْثُ الْتَفَتَّ رَأَيْتَهُ ** يَهْدِي إِلَى عَيْنَيْكَ نُورًا ثَاقِبَا

كَالشَّمْسِ فِي كَبِدِ السَّمَاءِ وَضَوْؤُهَا ** يَغْشَى الْبِلَادَ مَشَارِقًا وَمَغَارِبَا

وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ وَغَيْرُهُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادِ بْنِ أَنْعَمَ قَالَ‏: قِيلَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ‏: يَا مُوسَى، إِنَّمَا مَثَلُ كِتَابِ أَحْمَدَ فِي الْكُتُبِ بِمَنْزِلَةِ وِعَاءٍ فِيهِ لَبَنٌ كُلَّمَا مَخَّضْتَهُ أَخْرَجْتَ زُبْدَتَهُ‏.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي قَانُونِ التَّأْوِيل: عُلُومُ الْقُرْآنِ خَمْسُونَ عِلْمًا وَأَرْبَعُمِائَةِ عِلْمٍ، وَسَبْعَةُ آلَافِ عِلْمٍ، وَسَبْعُونَ أَلْفِ عِلْمٍ، عَلَى عَدَدِ كَلِمِ الْقُرْآنِ، مَضْرُوبَةً فِي أَرْبَعَةٍ، إِذْ لِكُلِّ كَلِمَةٍ ظَهْرٌ وَبَطْنٌ، وَحَدٌّ وَمَطْلَعٌ، وَهَذَا مُطْلَقٌ دُونَ اعْتِبَارِ تَرْكِيبٍ وَمَا بَيَّنَهَا مِنْ رَوَابِطَ، وَهَذَا مَا لَا يُحْصَى وَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ‏.
قَالَ‏: وَأَمَّا عُلُومُ الْقُرْآنِ ثَلَاثَةٌ‏: تَوْحِيدٌ وَتَذْكِيرٌ وَأَحْكَامٌ‏.
فَالتَّوْحِيدُ يَدْخُلُ فِيهِ مَعْرِفَةُ الْمَخْلُوقَاتِ وَمَعْرِفَةُ الْخَالِقِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ‏.
وَالتَّذْكِيرُ مِنْهُ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ، وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ، وَتَصْفِيَةُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ‏.
‏وَالْأَحْكَامُ مِنْهَا التَّكَالِيفُ كُلُّهَا وَتَبْيِينُ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ، وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَالنَّدْبُ، وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْفَاتِحَةُ أُمَّ الْقُرْآنِ; لِأَنَّ فِيهَا الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ وَسُورَةُ الْإِخْلَاصِ ثُلُثَهُ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى أَحَدِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ وَهُوَ التَّوْحِيدُِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ‏: الْقُرْآنُ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ‏: التَّوْحِيدُ وَالْأَخْبَارُ وَالدِّيَانَاتُ، وَلِهَذَا كَانَتْ سُورَةُ الْإِخْلَاصِ ثُلُثَهُ لِأَنَّهَا تَشْمَلُ التَّوْحِيدَ كُلَّهُ‏.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: الْقُرْآنُ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثِينَ شَيْئًا‏: الْإِعْلَامُ، وَالتَّشْبِيهُ، وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ، وَوَصْفُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَتَعْلِيمُ الْإِقْرَاءِ بِسْمِ اللَّهِ، وَبِصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَتَعْلِيمُ الِاعْتِرَافِ بِإِنْعَامِهِ، وَالِاحْتِجَاجِ عَلَى الْمُخَالِفِينَ، وَالرَّدِّ عَلَى الْمُلْحِدِينَ، وَالْبَيَانِ عَنْ الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ، وَنَعْتِ الْحِكْمَةِ، وَفَضْلِ الْمَعْرِفَةِ، وَمَدْحِ الْأَبْرَارِ، وَذَمِّ الْفُجَّارِ، وَالتَّسْلِيمِ، وَالتَّحْسِينِ، وَالتَّوْكِيدِ، وَالتَّقْرِيعِ، وَالْبَيَانِ عَنْ ذَمِّ الْأَخْلَاقِ، وَشَرَفِ الْآدَابِ‏.
وَقَالَ شَيْذَلَةُ‏: وَعَلَى التَّحْقِيقِ أَنَّ تِلْكَ الثَّلَاثَ الَّتِي قَالَهَا ابْنُ جَرِيرٍ تَشْمَلُ هَذِهِ كُلَّهَا بَلْ أَضْعَافَهَا فَإِنَّ الْقُرْآنَ لَا يُسْتَدْرَكُ وَلَا تُحْصَى عَجَائِبُهُ‏.
وَأَنَا أَقُولُ‏: قَدِ اشْتَمَلَ كِتَابُ اللَّهِ الْعَزِيزُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، أَمَّا أَنْوَاعُ الْعُلُومِ فَلَيْسَ مِنْهَا بَابٌ وَلَا مَسْأَلَةٌ هِيَ أَصْلٌ إِلَّا وَفِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا، وَفِيهِ عَجَائِبُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَمَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمَا فِي الْأُفُقِ الْأَعْلَى وَتَحْتَ الثَّرَى، وَبَدْءُ الْخَلْقِ وَأَسْمَاءُ مَشَاهِيرِ الرُّسُلِ وَالْمَلَائِكَةِ، وَعُيُونُ أَخْبَارِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، كَقِصَّةِ آدَمَ مَعَ إِبْلِيسَ فِي إِخْرَاجِهِ مِنَ الْجَنَّةِ، وَفِي الْوَلَدِ الَّذِي سَمَّاهُ عَبْدَ الْحَارِثِ، وَرَفْعِ إِدْرِيسَ، وَغَرَقِ قَوْمِ نُوحٍ، وَقِصَّةِ عَادٍ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، وَثَمُودَ وَالنَّاقَةِ، وَقَوْمِ يُونُسَ، وَقَوْمِ شُعَيْبٍ، وَالْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، وَقَوْمِ لُوطٍ، وَقَوْمِ تُبَّعٍ، وَأَصْحَابِ الرَّسِّ، وَقِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ فِي مُجَادَلَتِهِ قَوْمَهُ وَمُنَاظَرَتِهِ نُمْرُوذَ، وَوَضْعِهِ إِسْمَاعِيلَ مَعَ أُمِّهِ بِمَكَّةَ، وَبِنَائِهِ الْبَيْتَ، وَقِصَّةِ الذَّبِيحِ، وَقِصَّةِ يُوسُفَ وَمَا أَبْسَطَهَا، وَقِصَّةِ مُوسَى فِي وِلَادَتِهِ وَإِلْقَائِهِ فِي الْيَمِّ، وَقَتْلِ الْقِبْطِيِّ، وَمَسِيرِهِ إِلَى مَدْيَنَ وَتَزَوُّجِهِ بِنْتَ شُعَيْبٍ، وَكَلَامِهِ تَعَالَى بِجَانِبِ الطُّورِ وَمَجِيئِهِ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَخُرُوجِهِ وَإِغْرَاقِ عَدُوِّهِ، وَقِصَّةِ الْعِجْلِ وَالْقَوْمِ الَّذِينَ خَرَجَ بِهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّعْقَةُ، وَقِصَّةِ الْقَتِيلِ، وَذَبْحِ الْبَقَرَةَِ، وَقَصَّتِهِ مَعَ الْخَضِرِ، وَقِصَّتِهِ فِي قِتَالِ الْجَبَّارِينَ، وَقِصَّةِ الْقَوْمِ الَّذِينَ سَارُوا فِي سِرْبٍ فِي الْأَرْضِ إِلَى الصِّينِ، وَقِصَّةِ طَالُوتَ وَدَاوُدَ مَعَ جَالُوتَ وَفِتْنَتِهِ، وَقِصَّةِ سُلَيْمَانَ وَخَبَرِهِ مَعَ مَلِكَةِ سَبَأٍ وَفَتَنْتِهِ، وَقِصَّةِ الْقَوْمِ الَّذِينَ خَرَجُوا فِرَارًا مِنَ الطَّاعُونِ فَأَمَاتَهُمُ اللَّهُ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ، وَقِصَّةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ وَمَسِيرِهِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ وَمَطْلَعِهَا وَبِنَائِهِ السَّدَّ، وَقِصَّةِ أَيُّوبَ وَذِي الْكِفْلِ وَإِلْيَاسَ، وَقِصَّةِ مَرْيَمَ وَوِلَادَتِهَا وَعِيسَى وَإِرْسَالِهِ، وَرَفْعِهِ، وَقِصَّةِ زَكَرِيَّا وَابْنِهِ يَحْيَى، وَقِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَقِصَّةِ أَصْحَابِ الرَّقِيمِ، وَقِصَّةِ بُخْتَنَصَّرَ، وَقِصَّةِ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ لِأَحَدِهِمَا الْجَنَّةُ، وَقِصَّةِ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ، وَقِصَّةِ مُؤْمِنِ آلِ يس، وَقِصَّةِ أَصْحَابِ الْفِيلِ.
وَفِيهِ مِنْ شَأْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ بِهِ، وَبِشَارَةُ عِيسَى، وَبَعْثُهُ وَهِجْرَتُهُ، وَمِنْ غَزَوَاتِهِ سَرِيَّةُ ابْنِ الْحَضْرِمِيِّ فِي الْبَقَرَةِ، وَغَزْوَةُ بَدْرٍ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ، وَأُحُدٍ فِي آلِ عِمْرَانَ، وَبَدْرٍ الصُّغْرَى فِيهَا، وَالْخَنْدَقِ فِي الْأَحْزَابِ، وَالْحُدَيْبِيَةِ فِي الْفَتْحِ، وَالنَّضِيرِ فِي الْحَشْرِ، وَحُنَيْنٍ وَتَبُوكَ فِي بَرَاءَةٌ، وَحَجَّةُ الْوَدَاعِ فِي الْمَائِدَةِ، وَنِكَاحُهُ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، وَتَحْرِيمُ سُرِّيَّتِهِ، وَتَظَاهُرُ أَزْوَاجِهِ عَلَيْهِ، وَقِصَّةُ الْإِفْكِ، وَقِصَّةُ الْإِسْرَاءِ، وَانْشِقَاقُ الْقَمَرِ، وَسِحْرُ الْيَهُودِ إِيَّاهُ.
وَفِيهِ بَدْءُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ إِلَى مَوْتِهِ، وَكَيْفِيَّةُ الْمَوْتِ، وَقَبْضُ الرُّوحِ وَمَا يُفْعَلُ بِهَا بَعْدُ، وَصُعُودُهَا إِلَى السَّمَاءِ، وَفَتْحُ الْبَابِ لِلْمُؤْمِنَةِ وَإِلْقَاءُ الْكَافِرَةِ، وَعَذَابُ الْقَبْرِ وَالسُّؤَالُ فِيهِ، وَمَقَرُّ الْأَرْوَاحِ، وَأَشْرَاطُ السَّاعَةِ الْكُبْرَى، وَهِيَ: نُزُولُ عِيسَى، وَخُرُوجُ الدَّجَّالِ، وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَالدَّابَّةُ، وَالدُّخَانُ، وَرَفْعُ الْقُرْآنِ، وَالْخَسْفُ، وَطُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَغَلْقُ بَابِ التَّوْبَةِ، وَأَحْوَالُ الْبَعْثِ مِنَ النَّفَخَاتِ الثَّلَاث: نَفْخَةِ الْفَزَعِ، وَنَفْخَةِ الصَّعْقِ، وَنَفْخَةِ الْقِيَامِ، وَالْحَشْرُ وَالنَّشْرُ، وَأَهْوَالُ الْمَوْقِفِ، وَشِدَّةُ حَرِّ الشَّمْسِ، وَظِلُّ الْعَرْشِ، وَالْمِيزَانُ وَالْحَوْضُ، وَالصِّرَاطُ، وَالْحِسَابُ لِقَوْمٍ وَنَجَاةُ آخَرِينَ مِنْهُ، وَشَهَادَةُ الْأَعْضَاءِ، وَإِيتَاءُ الْكُتُبِ بِالْأَيْمَانِ وَالشَّمَائِلِ، وَخَلْفَ الظَّهْرِ وَالشَّفَاعَةُ، وَالْمَقَامُ الْمَحْمُودُ، وَالْجَنَّةُ وَأَبْوَابُهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْأَنْهَارِ وَالْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ وَالْحُلِيِّ وَالْأَوَانِي وَالدَّرَجَاتُ وَرُؤْيَتُهُ تَعَالَى، وَالنَّارُ وَأَبْوَابُهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْأَوْدِيَةِ، وَأَنْوَاعِ الْعِقَابِ، وَأَلْوَانِ الْعَذَابِ، وَالزَّقُّومِ وَالْحَمِيمِ وَفِيهِ جَمِيعُ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْحُسْنَى، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ، وَمِنْ أَسْمَائِهِ مُطْلَقًا أَلْفُ اسْمٍ، وَمِنْ أَسْمَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُمْلَةٌ، وَفِيهِ شُعَبُ الْإِيمَانِ الْبِضْعُ وَالسَّبْعُونَ، وَشَرَائِعُ الْإِسْلَامِ الثَّلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ.
وَفِيهِ أَنْوَاعُ الْكَبَائِرِ وَكَثِيرٌ مِنَ الصَّغَائِرِ، وَفِيهِ تَصْدِيقُ كُلِّ حَدِيثٍ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ شَرْحُهُ إِلَى مُجَلَّدَاتٍ.
وَقَدْ أَفْرَدَ النَّاسُ كُتُبًا فِيمَا تَضَمَّنَهُ الْقُرْآنُ مِنَ الْأَحْكَامِ كَالْقَاضِي إِسْمَاعِيلَ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَلَاءِ، وَأَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ، وَالْكَيَا الْهَرَّاسِيِّ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ، وَعَبْدِ الْمُنْعِمِ بْنِ الْفَرَسِ، وَابْنِ خُوَيْزِ مِنْدَادُ، وَأَفْرَدَ آخَرُونَ كُتُبًا فِيمَا تَضْمَنَهُ مِنْ عِلْمِ الْبَاطِنِ، وَأَفْرَدَ ابْنُ بُرْجَانَ كِتَابًا فِيمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ مُعَاضَدَةِ الْأَحَادِيثِ.
وَقَدْ أَلَّفْتُ كِتَابًا سَمَّيْتُهُ: الْإِكْلِيلَ فِي اسْتِنْبَاطِ التَّنْزِيلِ، ذَكَرْتُ فِيهِ كُلَّ مَا اسْتُنْبِطَ مِنْهُ مِنْ مَسْأَلَةٍ فِقْهِيَّةٍ أَوْ أَصْلِيَّةٍ أَوْ اعْتِقَادِيَّةٍ، وَبَعْضًا مِمَّا سِوَى ذَلِكَ كَثِيرَ الْفَائِدَةِ جَمَّ الْعَائِدَةِ، يَجْرِي مَجْرَى الشَّرْحِ لِمَا أَجْمَلْتُهُ فِي هَذَا النَّوْعِ، فَلْيُرَاجِعْهُ مَنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ عَلَيْهِ.